ومضة حب في رحاب سيد الرسل

ومضة حب.... 

لستُ بصددِ ذكرِ مناقبِ الرسولِ(صلى الله عليه وآله وسلم) في الوقتِ الذي جعلَه اللهُ تعالى حبيبا له، ولعل الخلّيةَ التي انماز بها النبيُّ إبراهيم عليه السلام بوصفه خليلَ اللهِ لا تكتملُ إلا بالحبِّ، وفتحُ آفاقِ لغةِ الخطابِ التي اتسمَ بها النبيُّ موسى عليه السلام لا تتكاملُ إلا بالحبِّ، وإن تجلياتِ الروحِ وتساميها التي نُعِتَ بها عيس بروحِ اللهِ لن تكونَ إلا بالحبِّ، وهكذا بقيةُ الأنبياءِ والرسلِ، فإن الحبَّ هو الفيصلُ في المفاضلةِ بين من اصطفاهم اللهُ تعالى؛ لذا نُعِتَ النبي ص بحبيبِ اللهِ، فضلًا على المفاضلةِ بين المسلمين التي ستُرتهنُ بمدى حبِهم للرسولِ الأكرمِ (صلى الله عليه وآله وسلم).... وحبُه لنا سيُرتهنُ بمفاضلتهِ، على قدرِ حبِ الواحدِ منا للآخر، لذا قال تعالى في كتابهِ العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).

ولستُ مستعرضًا ما قالَه بحقهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) علماءُ ومفكرون إسلاميون في قبالِ قولِ اللهِ تعالى بحقهِ، بصيغةِ التأكيدِ : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ناهيكم عما قيل فيه من غيرِ المسلمين من مفكرين وفلاسفةٍ ومصلحين، حتى عدهُ بعضُهم أفضلَ شخصيةٍ على مرِّ التاريخِ لما كان له من أثرٍ في بناءِ الإنسانِ والحضارةِ ومنظومةِ القيمِ.

بل إن مسعاي هنا هو التأملُ والتفكيرُ بصوتٍ عالٍ في قولِه تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) التي نزلت بحقِّ من جحدَ بآياتِ اللهِ وأنكرَ سماويةَ شخصِ الرسولِ الاكرمِ(صلى الله عليه وآله وسلم) وإعجازَ القرانِ الكريمِ من كافرينَ ومشركينَ... بيد أنَّه تعالى أبى أن يُنزّلَ عليهم العذابَ، لأنَّ الرسولَ الأكرمَ فيهم وأنه (صلى الله عليه واله وسلم) أينما حلَّ أمانٌ للوجودِ بأسرهِ بوصفهِ رحمةً للعالمين، لذا يُنقَلُ عن اميرِ المؤمنين عليه السلام إشارةً لمضمونِ الآيةِ المباركةِ أنه قال : (كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رُفِعَ أحدُهما فدونكم الآخرَ فتمسكوا به).

والناظرُ إلى ما آل إليه حالُ المسلمين يلحظُ أننا ابتعدنا كثيرا عن حضورِ الرسولِ الأكرمِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بين ظهرانينا بروحِه الطاهرةِ ونفسهِ الزكيةِ، وابتعدنا أيضًا عن سنتِه من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ فضلًا على الاستغفارِ عما جنيانه من مخاضِ تفكيرِنا، وعصارةِ سلوكِنا، على المستويين الفردي والاجتماعي وفي الميادين كافة.

وانطلاقا مما تقدمَ أقول: علينا أن لا نحييَ ذكرى الرسولِ الاكرمِ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالألسنِ ونميتُها في العقولِ والقلوبِ والأنفسِ، ونُغيّبُه في سلوكِنا وميادينِ حياتِنا، فقد كَبُرتْ الهوةُ بيننا وبين شريعتِه الغرّاء شريعةِ الإسلامِ، حتى قيلَ فينا: أيها المسلمون (دينكم دينُ اليُسرِ وانتم المُعسِّرون، دينكم دينُ الحُسنى وأنتم المُنفرون، دينكم دينُ الزكاةِ ولكنكم تبخلون، دينكم دينُ النَصرِ ولكنكم مُتخاذلون، دينكم دين العِلمِ ولكنكم تجهلون).

فإن اردنا أن نحييَ ذكرى ولادةِ الرسولِ الحبيبِ المصطفى علينا أن نحييَ عقولَنا بالتفكيرِ السليمِ بعد أنْ تفطرت، وقلوبَنا بالليونة وحبِ الخيرِ بعد أن تحجرت، وأن نحييَ النفوسَ بالحب بعد أن تصحرت، وأن نحييَ الإنسانيةَ فينا بعدما مُسِخَت، وأن تنطبقَ لغةُ خطابِ الظاهرِ على جوهرِ الباطنِ بعدما تعارضت وتعاكست، وأن نحييَ الحياةَ فينا وبيننا بعدما تجافت وتعسرت، حينئذٍ يحقُ لنا أن نحييَ ذكراه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وأخيرا أقول: مخاطبًا نفسي أولًا ومن يسمعُ خطابي أننا ممكنُ أنْ ننطلقَ من ذكرى ولادةِ الأمانِ الأولِ في الأرض (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن الاستغفارِ الأمانِ الثاني، لنبدأ من جديدٍ، وليجتهد كلُّ واحدٍ منا ويجاهد لتمثيل رسالة السماء، عسى أن نُعدَّ من أمتِه (صلى الله عليه وآله وسلم) وممن التحقَ به وبركبِه، ونالَ شفاعتَه بإحياءِ سنتِه.

 

الدكتور طلال فائق الكمالي

 عميد كلية العلوم الاسلامية 

جامعة وارث الانبياء